.حالتي بالأمس، وقد أقعدتني التخمة في أول يوم إفطار برمضان عند والدتي…
بقلم: عبدالعزيز قاسم
اعلامي وكاتب صحفي
.في خِضَمِّ نَشوتي العارِمةِ برمضانَ وطُقوسِه، والمَدينةِ المُنوَّرةِ ورُوحانيَّتها، وأجواءِ العائلةِ وحميميَّتِها، ونحن جُلوسٌ بين يَدَي *”سِتِّ الحبايبِ”* في أوَّلِ يومِ إفطارٍ، تَقلِيدٌ عائليٌّ قديمٌ نَلتَزِمُه، وطَقسٌ مُقدَّسٌ لا نَقبلُ المَساسَ به: *اليومُ الأوَّلُ من رمضانَ وعيدُ شَوَّالَ، نَمثُلُ بين يَدَي جَلالةِ الوالدةِ*، تِلكَ المَلِكةُ الَّتي تُحَوِّلُ المَطبخَ إلى مَسرَحٍ لِفُنونِ الطَّهيِ في هَذَينِ اليَومَينِ، وتَجلِسُ تَرْمُقُنا –بكُلِّ سَعادَةِ الدُّنيا– فَخُورةً برَتلِ الأطباقِ الَّتي أعدَّتْها، وكأنَّها تَستَعيدُ مَجدَها القَديمَ كأميرةٍ في قَصرِ الطُّفولَةِ..
الأطباقُ أمامَنا –نحنُ أبناؤُها– على مائدَةِ الإفطارِ، وهي الَّتي قَضَتِ الأَسابيعَ في إعدادِها قَبلَ مَجيئِنا، لِتَتَفَنَّنَ في سُفرةِ الإفطارِ الَّتي تُحَوِّلُها إلى لَوحةٍ بَديعَةٍ، نَستَحضِرُ –خِلالَها– تَفاصيلَ طُفولَتِنا كأنَّها شَريطٌ سينِمائيٌّ قَديمٌ، ونَتَذَاكَرُ أَحداثَ يُفاعَتِنا بكُلِّ الحَنينِ والضَّحِكاتِ، كزَهرَةٍ تَفَتَّحَتْ ثُمَّ ذَبُلَتْ، *بَينَما –”سِتُّ الحَبايبِ”– تَرْمُقُنا بعَينَيها اللَّتينِ تَفيضانِ سُرورًا وفَخرًا وحَنانًا، كأنَّنا أَبطالُ مَلحَمَةٍ يَتَسابَقُونَ لِالتهامِ ما أبدَعَتْهُ يَداها الذَّهَبِيَّتانِ*، ولا تَدري تِلكَ الأَميرَةُ أَنَّنا نَغُوصُ بكُلِّ الحَنينِ والشَّغَفِ لِكُلِّ تِلكَ الأَيَّامِ الَّتي كانَتْ تُرضِعُنا الحُبَّ الخالِصَ والحَنانَ الفَيَّاضَ والمَشاعِرَ الصَّادِقَةَ، بما لَمْ نَجِدْهُ أبدًا أبدًا إلَّا عِندَها، *فلا حُبَّ صادِقًا يُماثِلُ حُبَّ الأُمِّ!*.
أَعودُ بِكُم إلى مُحَدِّثِكُم، وقد نَسِيَ نَفسَهُ، وانطَلَقَ –لِلمائِدَةِ– كطِفلٍ أُطلِقَ مِنْ عِقالِهِ، وبِلا أَدنى شُعورٍ بِالذَّنبِ، شَرَعتُ في الهُجومِ، بَدْءًا بِـ*”سَمبوسَةٍ”* تُشبِهُ وِسادَةَ أَحلامي، ثُمَّ التَّحلِيقِ في فَضاءِ *”شُوربَةِ الحَبِّ”*، قَبلَ أَنْ أَهبِطَ اضطراريًّا في *”المَحشيِّ”* المُكتَنِزِ، وأُحِطَّ رِحالِيَ عِندَ *”صَمصَمَةِ القَرعِ”* اللَّذيذَةِ، ومِنْ ثُمَّ أَسبَحُ في بَحرِ *”السَّمْنِ البَرِّيِّ”* الَّذي غَطَّى سَطحَ طَبَقِ الفُولِ المُسبوكِ، وبِيَدِيَ قِطعَةُ *”تَميسِ البِسكويتِ”*، وهَكَذا دَوالَيْكَ مَعَ الضَّحِكاتِ والأُنسِ والذِّكْرَيَاتِ بَينَ الأطباقِ المُتَراصَّةِ، في الوَقتِ الَّذي لَمْ أُصْغِ فيهِ إلى استِغاثاتِ مَعِدَتي المَخنوقَةِ، والَّتي لَمْ تَكُنْ سِوَى موسيقَى تَصويريَّةٍ تُعَزِّزُ دِراما مَعرَكَةِ الإفطارِ الرَّمَضانيِّ، الَّذي أَنهَيتُهُ بِحَلا *”الكَريمَةِ”*، الَّتي استَعاضَتْ والدَتُنا بِها عنِ الحَلا الرَّمَضانيِّ الأَشهَرِ *”المَاسِيَّةِ”*، وأُختِها الصَّفراءِ الفاتِنَةِ *”الطَّطْلي”*، لِأَتَمَدَّدَ في استِسلامٍ، مُرتَشِفًا الشَّايَ كأنَّني قائِدٌ عائِدٌ مِنْ مَعرَكَةٍ ضارِيَةٍ، مُنتَشيًا بانتصارٍ مُؤقَّتٍ..
لكن، أَيُّها السَّادَةُ، لَمْ تَكُنْ لي يَدٌ في تَوقِيفِ هَذا العَبَثِ، فَكُلُّ لُقمَةٍ كانَتْ كَبَوَّابَةٍ زَمَنِيَّةٍ تُعيدُني إلى أَيَّامِ الطُّفولَةِ، حِينَ كُنَّا نَترَقَّبُ *”جَمْرَ وتَمرَ” مُحَمَّدِ حُسَينِ زَيدانَ* –يَرحَمُهُ الله– على شاشَةِ التِّلفازِ السُّعوديِّ، كأنَّهُ حَكيمٌ يُعلِنُ قُربَ مَوعِدِ إنهاءِ الصِّيامِ، بَيدَ أَنَّ المَوعِدَ الحَقيقيَّ لِنِهايَةِ الصِّيامِ يَأتي مَعَ *الشَّيخِ عَلي الطَّنطاويِّ–يَرحَمُهُ الله– وبرنامَجِهِ “عَلى مائِدَةِ الإفطارِ”*، نَغوصُ مَعَهُ ومَعَ استِطرادَاتِهِ، لِنُفيقَ مَعَهُ وهوَ يَقولُ: “عَنْ ماذا كُنتُ أَتَكَلَّمُ؟”، وَبِمُجرَّدِ انتِهاءِ بَرامِجِهِ نُرهِفُ السَّمْعَ لِمَدفَعِ الإفطارِ مِنَ القَلْعَةِ التُّركِيَّةِ في *”بابِ الرِّيعِ”* بِالطَّائِفِ، يَختَرِقُ هُدوءَ ما قَبلَ الإفطارِ كأنَّهُ صَوتُ القَدَرِ يَدُوي في الأُفُقِ..
يا لِرَوعَةِ ما كُنَّا فيهِ بالأَمسِ! والوالِدَةُ تَرْمُقُنا بِعَينَيْنِ كُلُّهُما حُبٌّ، وقد تَماهَتْ مَعَنا في تِلكَ الذِّكْرَياتِ، ومَوائِدِها الَّتي كانَتْ تُعِدُّها لِوَحدِها –بِلا عامِلاتٍ مَنزِلِيَّاتٍ– ويا لِطَعمِ تِلكَ الأطباقِ الَّتي لا تَزالُ لَذَّتُها عالِقَةً في أَفواهِنا كأنَّها وِشمٌ لا يَمحُوهُ الزَّمَنُ!.
صدقَ رَسولُنا الأَعظَمُ –صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم–: *”ما مَلأَ ابنُ آدمَ وِعاءً شَرًّا مِن بَطنِهِ”*
.https://www.facebook.com/share/p/15Sox2626g/