عادات وسلوكيات المجتمع المكي بين الماضي والحاضر

الحمد لله الذى علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ونصلى ونسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خير من تعلم واصدق من أعلم عن الله عز وجل وبعد فهذه دراسة أحاول القاء الضوء فيها على التحولات الإجتماعية فى المملكة العربية السعودية بصورة عامة وفى المنطقة الغربية منها بصورة خاصة وقد ركزت على  منطقة مكة المكرمة كحالة دراسة وحرصت على أن ادرس أهم التغيرات التى تمت فى النواحى الإجتماعية بين عام ألف وثلاثمائة وعشرين وألف وأربعمائة وعشرين وأخذت أدرس ذلك التغير الكبير والتحول الذى دخل على حياة الناس خلال هذه الفترة التي تمت خلالها تحولات كبيرة وتغيرت أوجه الحياة وحتى شخصية المدن وتركيبها وكيانها وحدودها فبعد أن كانت بعض المدن محصورة داخل أسوار مثل جدة والطائف ومكة المكرمة والمدينة المنورة خرجت هذه المدن عن الأسوار وتضاعف عدد  السكان وتغيرت شخصيات المدن من ناحية العمارة وتغير كل شئ فيها من طريقة السكن الى وسائل اتصال وبدخول الكهرباء حدثت تغيرات جذرية فى عادات الناس وفى تقاليدهم بعد أن كانوا ينامون بعد صلاة العشاء ويبدأون أعمالهم بعد صلاة الفجر وبعد أن كانوا يستعملون فى تنقلاتهم الجمال والحمير دخلت السيارات وأخذت تحل محل الدواب ثم بدأت القفزات الكبيرة عندما انفتحت هذه المدن ودخلها التلفزيون ودخلتها وسائل الاتصال الحديثة وعرفت الاقمار الصناعية وبدأ انفتاحها بصورة أكبر على عواصم العالم فأثر هذا فى الحياة الاجتماعية ثم جاء التطور الثانى عندما تحسنت دخول الناس وقامت الدولة بخطط التنمية المتوالية فأخذ الناس يستفيدون من هذه الدخول ويستعينون بعمالة خارجية سواء فى أعمالهم أو منازلهم كمربيات فى المنازل وخدم، وهكذا دخل تأثير جديد أدى الى تحول كبير وهو وجود العمالة الأجنبية وتراجع اليد الوطنية العاملة وكان لهذا العامل تأثيره الشديد وجاء عامل ثالث أكثر خطورة لأن المجتمع لم يكن مستعد له وهو ثورة الأقمار الصناعية وانتشار القنوات التلفزيونية ودخولها الى كل منزل بكل ما فيها من برامج أثرت دون شك فى حياة الناس وعاداتهم وتقاليدهم وقيمهم وموروثاتهم وقد أثر هذا الأمر بكل أسف فى عمق الحياة الاجتماعية وغير بعضها تغييراً جذرياً فأثر فى الأخلاق والسلوك وقد وصل التأثير الى المدرس فى المدرسة بحيث لم يعد ذلك المدرس الذى عهده المجتمع في الماضي عندما كان المدرس مربياً وقائداً ومعلماً وموجهاً للتلاميد فقد أصبح المدرس فى المدارس يؤدى دروسه دون عناية بقضية التربية والأخلاق والسلوك فزيادة الطلب والتوسع الكبيرة فى التعليم الذى فرضته ظروف التنمية أدى الى تخريج مدرسين ليسوا على المستوى التعليمى والتربوى الذى يؤهلهم لقيادة الطلاب وتوجيههم وتربيتهم في اغلب الأحوال فاصبح التعليم خالياً من التربية وهذا أثر الى درجة كبيرة فى سلوك التلاميذ وبالتالي فى سلوك المجتمع، وجاءت المشكلة الأخرى وهى أن التطور فى الدخول وتوفر فرص الكسب أدى الى تخلي الكثير من الاباء والامهات عن أدوارهم التربوية فانشغلت الأم بقضايا ثانوية وأوكلت التربية الى مربيات وحاضنات وخادمات فى المنزل واصبح الانسان يستطيع ان يقول بكل سهولة أن نسبة كبيرة من أبناء المجتمع هم أطفال المربيات والخادمات، وتخلى الأب عن دوره وانشغل عن تربية أولاده فحصل الانفلات وعانى المجتمع من هذه المؤثرات ونتج عن ذلك تحولات اجتماعية خطيرة لم يلحظها الناس وقد تكون أكثر تأثيراً فى المستقبل .

ولنأخذ بعض الصور الاجتماعية للمجتمع المكى يوم كان مجتمعاً نقياً تحكمه القيم والأخلاق وتحرسه التقاليد والأعراف لنستدل بها على مدى التغير الإجتماعى الكبير الذى حصل ، فقد كان المجتمع المكى مجتمعاً مترابطاً يعرف بعضه البعض ويعرف الإنسان جاره ومن حوله ومن فى حارته وإذا كان يعمل فى أى عمل فانه يعرف جميع من يعملون ويعرف الطالب معلمه ومدرسه وامامه وهكذا كان مجتمعا مترابطا. ثم لنأخذ هذه الصورة التى يرويها لنا الاباء لقد كان الرجل اذا سافر خارج مكة المكرمة وليس فى منزله أولاد فان زوجته تقوم بعجن العيش واعداده على طاولة ووضعه على الباب الخارجى فلا يمر اى انسان من الحارة إلا ويأخذ هذا اللوح ويذهب به الى الفران ثم يعود به ويضعه امام باب المنزل الذى أخذه منه فى أدب واحترام..
هكذا كان المجتمع في الماضي اما اذا ما نظرنا اليوم الى ما يفعله اولاد الحي وكيف يتصرفون عندما يرون سيدة فى سيارتها أو مجموعة فتيات نجد ان كثير منهم يتعقبونهن ويسعون خلفهن ويقطعون عليهن الطريق فى وقاحة ليس لها مثيل أما إذا خرجت من سيارتها فانهم يتعقبونها وهى تدخل الى محل تجاري ويقذفون لها بالأوراق وهكذا تحولت صورة المجتمع وهكذا تحول اولاد البلد ، وتحولت جوانب من أخلاقهم ، واختفت لدى كثير منهم الشهامة والرجولة والغيرة والاحترام وحلت محلها مجموعة من الأخلاق السيئة التى ترمز الى تحولات خطيرة فى المجتمع وهؤلاء الأولاد انما تصرفوا على هذا النحو لأنهم فقدوا التربية فالأم تخلت عن مسئوليتها وجعلت المربية او الخادمة هى التى تربيهم والأب تخلى عن دوره وانشغل بمباهج الحياة ومكاسبها وأغدق على أولاده  بالعطايا ليريح ضميره بأنه قدم لهم شيئاً ما أى شئ بعد أن حرمهم من حنانه وتربيته ومسئوليته أمام الله عنهم وتخلى المدرس عن مسئوليته وأصبح ملقناً للعلوم ومسخت فى كثير من المدرسين الشخصية التربوية وغابت الأخلاق وحدث التحول الذى أدى الى تغييرات جذرية فى المجتمع، ومن هنا فإننا نستطيع أن نلاحظ التغيرات التى حصلت فى المجتمع المكى كنموذج للتحول الاجتماعى فى المملكة العربية السعودية وان اختلفت من مكان لمكان بقدرما وبصورة تزيد او تقل وبدرجات مختلفة فى المدن والقرى ولكنه تحول أثر فى مجتمعنا ككل.
وأنا عندما اتحدث عن هذا التغير فاننى لا استطيع ان انكر انه لايزال فى المجتمع نفر من الناس يحرصون على تربية أولادهم وما تزال هناك أمهات يسهرن على تربية أولادهن من البنين والبنات وما يزال لدينا مدرسون أمناء يحرصون على آداء واجبهم ولكن كل هؤلاء اصبحوا قلة أمام السيل الجارف والتحول الكبير الذى يطحن المجتمع ويؤثر فيه ويغيره تغيرات جذرية تضرب فى عمق المجتمع.

ودعونا الآن نلقى الضوء على صور من حياة المجتمع المكى فى مكة المكرمة فانا كما ذكرت اتحدث عن التحولات بين عام ألف وثلاثمائة وعشرين الى الف واربعمائة وعشرين ، والمتتبع بدقة لهذه المرحلة يلاحظ ان الحياة كانت عادية وطبيعية وبدون تغييرات جذرية لافي الناس ولا في المجتمع قبل ظهور البترول في المملكة وبعد ظهوره ظلت الحياة كذلك الا من متغيرات بسيطة خلال العشرين سنة الأولى لظهور البترول ، وبعد ذلك بدأت بعض  التغيرات الأساسية ولكن بصورة بسيطة ، وتحسنت دخول الناس وموظفي الدولة على وجه الخصوص والعاملين في التجارة ، وظل الأمر على هذا النحو الى أن جاءت الفترات التي بدأت فيها الدولة بالانفاق بصورة واسعة ، ووضعت خطط التنمية ، وبدأت القفزات الكبيرة في الدخول وكان ذلك خلال الفترة ( 1395-1405  ) وعند ذلك تم التوسع الكبير في عمليات التنمية ، وكان سريعا مما تطلب فتح باب الاستقدام على مصراعيه ، وتم احضار آلاف من العمالة الأجنبية من الرجال والنساء ، ثم اصبحت بالملايين حتى بلغ عدد العمال الأجانب مايزيد على سبعة ملايين بين رجل وامرأة .
وجاءت النقطة الأخرى فعندما تحسنت الدخول زاد عدد المواطنين الذين سافروا الى خارج المملكة بعوائلهم ، كما زاد عدد الناس الذين يستخدمون ويشغلون خادمات ومربيات في المنازل ، وحتى ان بعض ذوي الدخل المحدود اصبح لديهم  سائقين ومربيات ، وهكذا بدأ التغيير بصورة كبيرة وواسعة ، وبدأ الجميع يعاني من هذا الاختلاط ومن اثاره الاجتماعية .

مكة المكرمة والعادات والتقاليد:عندما اتحدث عن مكة المكرمة فلابد أن أحدد أننى أتحدث عن تلك الفترة التى كانت فيها مدينة مكة المكرمة محدودة وسكانها جميعاً مرموقون والوافد اليها انما يفد الى الحج ثم يعود الى بلاده ويبقى بعد الحج أهل الحارات وكل انسان يعرف أبناء حارته وقد كانت حدود مكة المكرمة لاتتعدى الثكنة وبعض الناس كانوا يسمونها حدود مكة المكرمة الثكنة العسكرية  وهى على يمين القادم من جدة وكانت هى نهاية حدود مكة من الشمال.. وهناك كانت منطقة بيبان مكة وكانت تسمى البيبان وفيها قهوة مشهورة تسمى قهوة المعلم يجلس فيها كبار أهالى مكة وتستقبل القادمين من خارجها لسيتريحوا فيها بعد رحلة شاقة وهناك منطقة الشهداء وما عدا ذلك لم يكن هناك عمران غير هذا واما فى الجنوب فلم تكن غير منطقة جرول والحفاير وكان بيت الشيخ محمد سرور الصبان وهو آخر المناطق للخارج من مكة اما من ناحية الشرق فقد كان القصر الملكى فى المعابدة هو آخر الحدود وكان يسمى قصر السقاف وقبله كان بيتاً لآل الشيبى واما من ناحية المسفلة فقد كانت بركة ماجد هى آخر حدود مكة ثم توسعت بطبيعة الحال المدينة حتى غدت والحمد لله على هذا النحو الذى نراه.
هذا من ناحية حدود المدينة ودعونا الآن نلقى نظرة على الأسر المكية وعاداتها وتقاليدها.

الأسرة فى مكة المكرمة والعاداتكانت الأسر فى مكة المكرمة تعيش فى وحدات ملتحمة مترابطة ومعظمهم أسر كبيرة تعيش فى بيت واحد يسكن فيه الأب والجد والأولاد وكلما تزوج ابن وسعوا فى المنزل ليكون معهم بل أن بعض العادات كانت عجيبة وتدل على الكرم والإيثار فقد كان بعض الناس الذين ليس لهم أولاد اذا رأى أى انسان آخر ودخله محدود ولايستطيع ان يشترى ارضا ليبنى عليها يدعوه ليبنى غرفة ويقول له بدلا من أن تتكلف تعال فابن فوقى ليوفر عليه ومن هنا نجد فى المحاكم اليوم قضايا لمجموعة من الناس لبعضهم الدور السفلى يملكونه بصكوك ولبعضهم الدور العلوي بصكوك اخرى .

وكان النظام العائلى يقوم على الترابط كما يقول الأستاذمحمد على مغربى الذى كان يصف جانباً من حياة الأسرة : ” فقد كان الناس يعيشون فى كنف رب الأسرة وكبيرها اذا كان أبا او جدا وكانوا يأكلون على مائدة واحدة فالرجال يأكلون مع بعضهم البعض و بقية بنات العائلة ونسائها يأكلن معاً ، وكان الجميع يأتمرون بأمر رئيس العائلة ويحرصون على سماع نصائحه ويستأذنونه فى كل شئ ولابد من اخذ إذن رئيس الأسرة فى كل تصرف. وكان الصغير يوقر الكبير والجميع يعطون للسن حقها.
وكان رئيس العائلة هو الجد وبعد وفاته يبقى أكبر الأبناء هو رئيس العائلة وقد كان لشباب البيت مكانُ خاص للاجتماع والسمر مقصوراً على رجال العائلة الكبار واصدقائهم وقد كان الكبار يعتبرون انفسهم مسئولين عن صغار العائلة فهم يرعون شئونهم ويراقبون تصرفاتهم وخاصة مايتعلق منها بالآداب العامة فالالتزام كان مبنيا على التعاطف وهو يمثل الرابط العائلى من الجانبين”

أهل مكة وسكانهاكان اهل مكة يعيشون فى احياء محدودة ومعروفة وتسمى الحارات ولكل حارة اهلها وسكانها وعمدتها وفقيهها وهناك كبار اهل الحارة الذين يعود اليهم الناس فى كل شأن ويرعون شئونهم ويحتكمون اليهم وكان اهل مكة عامة يهتمون بشئون الحج والحجاج والحرفة الاساسية كانت هى خدمة الحجاج فهم يعتبرونهم ضيوف الرحمن وكانت مهنة الطوافة فى مراحلها الأولى مهنة ذات صبغة علمية ويقوم بها اهل العلم والورع لخدمة ضيوف الرحمن ويفتحون بيوتهم للحجاج باعتبارهم ضيوف الرحمن ولايأخذون منهم اى مقابل ولا يشترطون عليهم اى مبلغ فيأتى الحاج وياخذه المطوف لأداء طواف القدوم ثم يأخذه الى المنزل ليطعمه ويسكنه ويرعاه من يوم قدومه الى يوم سفره من مكة وعند مغادرته يودعه كما استقبله وعندما يهم الحاج بالسفر يقوم بوضع بعض المبالغ والهدايا فى محل امام المطوف لأنه يعتبره معلمه وقائده فى الحج ويقول له ياسيدى تتقبلون هذا منا ولانستطيع ان نجازيكم وجزاؤكم على الله.

وهكذا كانت هذه المهنة هى المهنة الاساسية لاهل مكة المكرمة وهناك بعض المهن التى كان يعمل فيها الناس خلال العام ويكسبون رزقهم من العمل فى هذه المهن فمنهم الحدادون ومنهم النجارون ومنهم بائعوا الأقمشة والمشتغلين بالجزارة وبيع الحضروات وجلبها الى مكة المكرمة ومنهم اصحاب الفنون فى زخرفة المنازل ومنهم طلاب العلم والعلماء الذين يدرسون فى المسجد الحرام وهناك انواع اخرى من المهن التى كانت مشهورة فى مكة المكرمة كاعمال البناء والحجَّارة الذين يعملون فى صناعة الحجر وهكذا ولكل من هؤلاء شيخ يحكم ويتحكم فى قوانين الصنعة. فلا يعمل أى انسان الا باذن من شيخ الصنعة فللمطوفين شيخ ولباعة القماش شيخ وللجزارين شيخ وهكذا يلتزم كل اهل صنعة بآداب الصنعة وقوانينها ويحرصون على آداء أعمالهم على خير وجه ، وحتى العوائل كانت تسمى باسم صنعتها مثل بيت النجار ، بيت الحداد ، بيت الكتبي ، بيت العطرجي ..

“وكذلك العلماء فى المسجد الحرام كان لهم شيوخ وفقهاء ولايسمح لأى انسان ان يشترك فى التدريس فى المسجد الحرام الا بعد أن يتتلمذ على الشيوخ والعلماء ويأخذ الإذن والرخصة ويشهدون له بالتأهيل للتدريس فى المسجد الحرام وليس له الحق فى أن يتقاضى اجراً فى بداية عمله ولكن بعد فترة وحسب المقاييس ينال حصة من الأعطيات او يصرف له راتب سنوى ويعتمد هذا الراتب على قناعة شيخ العلماء بمدى اهليته للتدريس ولابد ان يجتاز الامتحان وهذا الامتحان يشبه الى حد كبير امتحان المعلمية بالنسبة لطوائف الحرفيين ويقوم شيخ العلماء بتحديد موعد الالتحاق اما مكانه فهو فى الغالب فى الحرم قرب باب الزيادة ويكون الامتحان فى الغالب قبيل الظهر او بعد صلاة العصر والممتحن فى العادة هو شيخ العلماء او نائبه مع عدد من الأساتذة الذين يجلسون على هيئة حلقة دائرية يحضرها بعض الاصدقاء والمهتمين يجلس هؤلاء فى الخلف عادة وهناك اربعة او خمسة من الاساتذة يعملون كمراقبين لعملية الامتحان الذى يقتصر احيانا على البسملة (بسم الله الرحمن الرحيم) وبعد انتهاء الامتحان يدعو الحاضرون بالتوفيق لزميلهم الجديد ثم تدار القهوة بعد ذلك وحينما يكون الشيخ ميسور الحال يدعو الجميع لتناول طعام العشاء فى بيته”
وحتى الاغوات فى المسجد الحرام كان لهم شيخ يعرف بشيخ الأغوات وهو الذى يوجههم لخدمة البيت الحرام والمسجد الحرام وهؤلاء الأغوات كانوا يفدون الى مكة المكرمة من بلادهم هدية من  اهاليهم لخدمة المسجد الحرام وكان بعضهم يصل مخصيا حيث يقوم الحاكم فى افريقيا بإخصائهم صغارا واستخدامهم عندما يكبرون لخدمة نساء الطبقات العليا فى مجتمعاتهم وبعضهم يبعثون الى الحرمين الشريفين وهم فى الغالب من الأحباش والنوبيين.

ولقد تطورت اعمال شيخ الاغوات حتى اصبح فى وقت من الاوقات يعتبر من الشخصيات المهمة فى مكة المكرمة وكان أمير مكة او حاكمها يذهب فى ايام الاعياد والمناسبات ليسلم على شيخ الاغوات كما ان أوضاعهم الأخرى قد تطورت حتى وصلت ذروتها عندما تطورت دخولهم من الاوقاف والعقارات التى كانوا يملكونها والتى هى باقية حتى اليوم وكان شيخ الاغوات يساهم فى احتفالات ومناسبات اهل مكة المكرمة التى كانت تقام كذكرى السيدة خديجة بنت خويلد زوجة المصطفى صلى الله عليه وسلم وذكرى كانت تقام لعبد الله بن عمر رضى الله عنه وذكرى الاسراء والمعراج وذكرى المولد النبوى الشريف وكانت هذه مناسبات وعادات تقام فى مكة المكرمة فى ذلك الوقت..

وكان عمد الحارات يختارون بعناية وبدقة ولا يعين العمدة الا من الرجال المحترمين الذين يشهد الناس لهم بالاخلاق والرجولة والمسئولية والعمدة يعرف كل سكان الحى وقد روى لي الشيخ عبد العزيز محضر  حادثة توضح هذا الدور في ذلك الزمن ذكر فيها : كنا نجلس عند مدخل الحارة فسمعنا طرقا على النافذة فى احد المنازل وعندما اقتربنا سمعنا السيدة صاحبة المنزل تقول : ” يا رجال .. يا عمدة .. الحارة اندعست ”  اى ان رجلا غربية دخلت الحارة اى ان وافدا دخل الحارة وهذا يدل على مدى ترابط اهل الحارات كل حارة تعرف من فيها والعمدة يعرف جميع اولاد الحارة الى هذا الحد كان السكان فى مكة المكرمة يعرفون بعضهم البعض.

ومن ينظر فى احوال اهل مكة المكرمة وطريقة كسبهم يلاحظ كما سبق ان ذكرنا ان : ” المهن الاساسية لهم كانت خدمة الحجاج ولكن تبين بعض الدراسات تنوع الأنشطة التى اشتغل  بها اهل مكة من اجل تامين معيشتهم فأولها العمل بالوظائف الحكومية والخدمة العامة وهذه تخص ولاة مكة واعوانهم من الجنود والرجال والقضاة وعمال السوق والشرطة والحرس وحجبة البيت وائمة الحرم وغيرهم ولابد أن هؤلاء كانت تتفاوت دخولهم وفقا لاهمية الوظيفة ومهامها ومن المحتمل ان لكثير منهم دخولا اضافية اما من خلال العمل الجزئى بالتجارة او تربية الماشية او امتلاك رقيق وتشغيلهم ببعض الحرف والخدمات وغير ذلك وكان العطاء المنظم وما يوزعه الخلفاء من اموال فى المناسبات يشكل رافدا طيبا لدخول بعض اهل مكة.

اما اهم الانشطة السكانية فكان العمل بالتجارة وكان اكثر اهل مكة يرتبط بالتجارة والكسب منها بشكل او بآخر ولقد تغيرت طبيعة التجارة عنها فيما قبل الاسلام تغيرا اساسيا بحيث اضحت تعتمد على التجارة الداخلية وتنوعت التجارة ونشأت الاسواق والبائعون المتخصصون  ونشطت حركة الصرافة وتبادل السلع مع البادية والأقاليم القريبة والبعيدة والأمصار الإسلامية وكان ذروة النشاط في  موسم الحج ومن خلال الدراسة تبين أن عدد العاملين بالتجارة أقل بقليل من اجمالي عدد العاملين بكل المهن الأخرى وربما أنهم كانوا الأعلى دخلاً .أما الزراعة فلا تشكل أهمية كبيرة كنشاط سكاني على الرغم من اقامة عدد من المشاريع الزراعية في فترة الدراسة ولكن نظراً لطبيعة مكة فإن الانشغال بالزراعة لم يكن ذا جدوى اقتصادية بحيث تستقطب للعمل فيها أعداداً من أهل مكة ، اللهم الا بعض الزراعات المطرية مثل زراعة الحبحب والشمام ، وكانت هناك بعض مزارع في اعالي مكة المكرمة في طريق الطائف مثل الشرائع والمسفلة .أما العمل بالرعي فقد استقطب عدداً كبيراً نسبياً نظراً لامتلاك أهل مكة الكثير من الثروة الحيوانية لكنها مهنة شاقة ودخلها زهيد ويُعتقد أن معظم من كان يشتغل فيها أبناء الأعراب المقيمين بالقرب من مكة أو بعض الرقيق .أما النشاطات الأخرى التي توازي التجارة وتتفاعل معها فهي العمل بالحرف سواء كانت انتاجية مثل الدباغة والخرازة والحدادة والنجارة والغزل والخياطة وصناعة الأطعمة أو خدمية مثل مهن السقائين والحطابين والحمالين والحلاقين وتقدر الدراسة أن أعداد الذين اشتغلوا فيها كثُر أما العاملون بالنشاط الترفيهي فيبدو أنهم أقل أصحاب المهن عناءً وأعلاهم دخلاً وقد شاركت المرأة في التجارة وفي بعض الحرف مع الرجال وهناك حرف خاصة بالمرأة .وباستثناء التجارة كانت الشريحة الثالثة من السكان وهي الموالي والرقيق يشكلون العمود الفقري في النشاطات الحرفية فقد كان بعضهم يشتغل لصالح نفسه وبعضهم يشتغل لصالح غيره بأجر أو نصيب من الدخل .أما الرقيق خاصة فقد كانوا يعملون لأسيادهم وبعضهم كان يؤدي للسيد مبلغاً محدداً أو خراجاً معلوماً كل يوم أو كل شهر”   .

علاقات الناس بعضهم ببعض في مكة المكرمةهذه التي قدمناها صور من حياة المجتمع المكي في سكنه وعيشه وعلاقة الناس بعضهم ببعض وأنواع العلاقات الاجتماعية التي تربطهم سواء كانوا من العلماء  أو من العامة وحتى أهل الطرب والغناء كانت لهم مجالسهم ولهم شيوخهم ولهم أصولهم حتى في الطرب والنشيد . وكان من الجيل الأول والرعيل الأول كما يقول السيد عباس بن علوي المالكي في كتابه ” هكذا كانوا ” أن ذلك الجيل كانت له عادات وتقاليد كثيرة وروابط فيما بينهم وكانوا يفتخرون بنسبهم وعندما يقولون هذا فلان ابن حارة كذا أي بمعنى أنه تربّى في الحارة وهي المدرسة التي يتخرج فيها الرجل الشهم صاحب الغيرة والمروءة فابن الحارة هو العضو الفعال في المحلة فهو يعرف الحارة ومنافذها ومداخلها وأزقتها وأسواقها ومن يكون فيها من العائلات كما أنه صاحب فراسة دقيقة فيعرف السارق ويعرف المتلبس بالجريمة ويعرف الرجل الأجنبي الذي دخل الحارة لذلك ترى الكل يعرفون بعضهم بعضاً وعلى سبيل المثال فاذا كان الرجل ماراً من داخل الحارة ويريد مكاناً آخر أو حارة أخرى وكان الطريق يمر من هذه الحارة فترى أعين أهل الحارة معه حتى يخرج من تلك البقعة التي يقطنون بها فيستلمه أهل الحارة الثانية التي تلي حارتهم وهكذا من حارة إلى حارة إلى أن يصل إلى المكان الذي يريده وهو مراقب من جميع أهل الحارة .وهكذا كانوا اهل غيره على الأعراض وعلى التراب وعلى العرق والدم واللحم ومن عاداتهم أنهم أهل عمل وصنعة لا يرضون بالعجز والكسل فترى الواحد منهم إذا أصبح ينهض بنشاط يقوم مبكراً يتضرع بالدعاء إلى الله: (أصبحنا وأصبح  الملك لله) فيؤدي ما عليه من صلاة وذكر ثم إلى العمل فاذا كان معلم بناء فيبادر إلى العمل قبل العمال إلى أن ينتهي العمل .وكان العمل في ذلك الوقت يبدأ من الساعة السادسة صباحاً حتى الظهر ثم يصلون الظهر ويتناولون طعام الغداء ويحرصون على القيلولة ، ثم بعد ذلك يعودون الى العمل إلى قبل غروب الشمس بساعة ثم يبطلون على لغة أهل الصنعة ويعود كل واحد الى داره ويلبس ملابسه النظيفة بعد أن يغتسل ثم يذهب مع الاخوان للسمر أو الغناء في بعض المقاهي المنتشرة في مكة في حارته أو في غيرها ، والمقهى هو: عبارة عن مكان يجتمع فيه أهل الحارة وأهل الحرف وأيضاً توجد مقاهي للأدباء في آخر محلة المسفلة يتسامرون فيها ويتذاكرون في الأدب والشعر ثم بعد صلاة العشاء إذا كان هناك حفلة أو زواج أو مناسبة سعيدة فيذهبون اليها ويكون السمر في حدود المعقول ويمكث الواحد منهم وقتاً من الليل ثم يعود إلى داره ومنهم من يذهب إلى الحرم للصلاة فيه والجلوس في حلقات الدرس والاستماع لدروس العلماء وكان معظم أهل الحرف لا يجيدون الكتابة أو القراءة ولكنهم كانوا يتخلقون بالأخلاق الإسلامية الحميدة  اخلاق طلاب العلم وهذا هو البرنامج اليومي لأصحاب الحرف   .وقد كان الناس يفرقون بين ابن الحارة وبقية الأولاد في الحارة الذين كانوا في أعمالهم أو في مدارسهم وأما ابن الحارة فله زي خاص في لبسه ، وخاصة العمامة على رأسه ، وغالباً ما تكون الغبانة وفي وسطه حزام يعرف بالبقشة أو الكمر ، وابن الحارة شاب يتحمل المسئولية مع رجال الحارة والعمدة والنقيب في الحفاظ على أمن الحارة وأمانها ، وكان الناس يتعاونون في اصلاح شأن أولاد الحي ويؤدبونهم وإذا وجدوا منهم خطأ عاقبوهم ولا يعترض على ذلك الأب أو أي انسان من الأسرة ، وكان لأولاد الحارة عادات عندما يمر الرجل الكبير في شارع وهم جلوس يقفون احتراماً له وإذا رأوا إمرأة في الطريق افسحوا لها الطريق ويتعاونون على نجدة أهل الحارة ومساعدتهم .ملابس الناس في مكة المكرمة” تتألف الملابس النسائية في ذلك الوقت من السروال والصديرية ثم الكرتة “الفستان” والمحرمة والمدورة للرأس ، اما الملابس التي كان يرتديها الرجال من عامة الناس من أرباب المهن ، كالعمال ، وما إليهم من سواد الناس ، فهؤلاء يلبسون بصورة عامة ثياباً واسعة ، قصيرة تستر الركبة ، ولا تصل إلى منتصف الساق ويتحزمون بحزام عريض جداً من شال أحمر ، ويعتبرون أن هذا الحزام “الحاوي” نسبة إلى الحارة يميزهم عن أولاد “الخرقة” وأولاد الخرقة وصف يطلق على المتعلمين ، ومن إليهم ممن يتخذون سمتاً مهذباً في لباسهم، ولعلها إشارة إلى أن هذه الملابس التي يصفونها بالخرقة تميزهم عن سواهم ، وتحت هذا الثوب سروال قصير إلى ما فوق الركبة ، ولكنه واسع وليس مثل السراويل القصيرة التي يرتديها الناس في هذه الأيام ، أما الرأس فله كوفية جاوية ، ولكنها تتميز بقصرها فلا تستر إلا وسط الرأس ، ثم تبقى مرفوعة إلى أعلى ، وغير معتنى بكيها ، بينما تكون الكوفية التي يستعملها المتعلمون تستر الرأس كله ومعتنى بكيها مع وضع النشا فيها فتظهر بيضاء جميلة لامعة ، وبعد ذلك يأتى الشال ليكون عمامة على الرأس أو ليسدل على الكتف ، وهذا الشال غالباً ما يكون من قماش متين كذلك ، وهو يعتمد على حالة الناس المالية ـ فإن كانوا من رقيقى الحال ، كان من قماش قطنى أحمر اللون ـ رخيص الثمن ، وإن كان من الميسورين ، كان من الغباني ، أما الثوب فهو من الدوت ، ولكنهم كانوا يصبغونه بلون أخضر غامق ، وكانت في البلاد مصابغ تؤدي هذه المهام، وكثيراً ما تمر بهذه المصابغ فترى هذه الثياب وقد نشرت على الحبال بعد إتمام صبغها، ولعلهم كانوا يلجأون إلى هذا الصباغ ليتحمل الثوب ما يتعرض له لا بسه من أوشاب مهنته، لأن هذه الطبقة من الناس كانت تباشر الأعمال المهنية، كالبناء، أو الجزارة، أو الفرانة، أو أعمال البحر، أو حمالة البضائع، وما إليها، ولم يكن بوسعهم أن يغسلوا ثيابهم في كل يوم، إنما كان المتوسط أن يبقوا بالثوب بضعة أيام، فإذا كان يوم الجمعة وهو يوم العطلة، استبدلوا الثوب القديم بثوب آخر نظيف ، ليتم تغييره بعد أسبوع .
هذا بالنسبة لسواد الناس اما ملابس التجار والعلماء فقد كانوا يلبسون : ”  الثياب البيض من الكتان أو البفتة ، وفوقها الشاية ، وهي عبارة عن جبة مفتوحة ، إلا أنها تربط بحزام رفيع لقفلها من الوسط ، ثم الجبة من فوقها ، أما الرأس فإن العمامة الحجازية الألفي هي التي تزينه ، وتتميز هذه الملابس بأنها واسعة ، وأن قماشها بسيط لا مغالاة فيه ، وأن أكمامها واسعة  وفي الصيف يكون القماش المستعمل من البفتة أو من الكتان الأبيض ، إذا كان الجو معتدلاً ، أما في الشتاء فإن الجبة تكون من الصوف ومن ألوان هادئة ، تليق بوقار التجار واهل العلم ، وتتميز العمامة بلتها الكبير والتي لا مغالاة في إتقانها ، وربما استعمل العالم معها شالاً من الصوف يطوق به عنقه ، ويسد له فوق كتفيه وخاصة في الشتاء ، والثياب تزود دائماً بجيوب متوسطة الحجم في النصف الأدنى من الثوب ، يضع فيها العالم او التاجر منديله ومسبحته وكيس نقوده وبعض ما يحتاج إلى حمله ، وغالباً ما يكون للعالم تابع يحمل سجادته وكتبه وإلا حملها بنفسه ، أما الملابس الداخلية فهي السروال الطويل والعراقية ، والسروال هو عبارة عن بنطلون وسيع يشبه بنطلون البيجاما ، الذي يستعمله الناس حالياً ، إلا أنه واسع جداً ، وله دكة تربط في الوسط والعراقية ، هي عبارة عن فانيلا ، إلا أنها من قماش خفيف جداً _ من الشاش _ وهو غزل القطن الرفيع بحيث تشف عما تحتها ، ولها أكمام نصفية وهي تستعمل في الصيف ، وسميت عراقية لأنها تمتص العرق الذي يفرزه الجسم في الصيف “
الغناء والطرب عند الناس في مكة المكرمةكان الغناء وخاصة الذي يقوم على الانشاد من أبرز مظاهر الفرح عند أهل مكة المكرمة وكان لهذا الغناء أعلامه وأصوله وكان الناس بعد الفراغ من موسم الحج يذهبون إلى خارج مكة في بعض مناطق البساتين وبعض مناطق المياه المنحدرة من بقايا مياه الأمطار ليقيمون اياماً يرتاحون فيها بعد عناء العمل ويقيمون حفلات غناء ولا يحضرها إلا الرجال وكذلك كانوا يفعلون في مناسبات الزواج وفي تلك الأيام التي مضت لم يكونوا يستخدموا آلات الطرب كالعود والكمان وغيرها .وكان الغناء هو أبرز الفنون الحجازية الأصيلة في الأربعينات والخمسينات ، وكانت مكة المكرمة تنفرد باثنين من أعلام الغناء في ذلك العصر ، هما زعيما هذا الفن ، أعني بهما الشيخ إسماعيل كردوس ، والشيخ حسن جاوة ، والأخير هو والد الأساتذة أمين وجمال وعبد الغني وطاهر جاوة .” وكانا يحييان حفلات الغناء التي كانت تقام دائماً بمناسبة الأعراس الكبيرة ، في مكة المكرمة وجدة ، وكان الغناء في الواقع يقوم على الإنشاد ، ولم تكن تصاحبه آلات الطرب كالعود والكمان والقانون وغيرها من الآلات التي يشاهدها الناس ، والتي تتكون منها الفرق الغنائية ، فلقد كان استعمال هذه الآلات ممنوعاً بصورة صارمة خلال الأربعينات والخمسينات ، بل وحتى الستينات وما بعدها ، كما أنه لم تكن هناك ميكروفونات لأنه لا توجد كهرباء ، حتى أن إذاعة الأذان من الحرم المكي الشريف بالميكروفون إنما تم في النصف الأول من الستينات  ، ولهذا فإن المغني أو المنشد إنما كان يعتمد على صوته وحده ، وكانت أصوات المغنين الذين ذكرتهم جهورية عالية الطبقات ، وكان المرحوم إسماعيل كردوس أعلاهم طبقة ، وأجهرهم صوتاً ، وكانوا يبالغون إنه إذا كان يغني في الهدا سمعه الناس في الكر، والكر بضم الكاف والراء وتشديدها هو سفح جبل كرا وهو موضع معروف في الطريق الجديد للطائف ، وكان هؤلاء المغنون يتعلمون الغناء على أيدي المغنين والمطربين المشهورين في زمانهم ، وكانوا يتقنون الإنشاد إتقاناً تاماً.” وكذلك الشيخ حسن جاوة رحمه الله ، فقد كان له حضور فني وحضور ذهني في نفس الوقت ، فهو يختار في كل مجلس مايغنية بعد ان ينظر فيمن حوله من الجلوس ، ان كانوا من الشباب او من الشيوخ ، وهل هم من المتعلمين من الشباب كما يقول الاستاذ محمد علي مغربي رحمه الله الذي يروي عن الاستاذ حسن جاوة ومجالسه ، وكيف كان يختار من شعر الغزل القديم او الحديث ، ويحرص على تشكيله ونطقه واخراجه ، وكان رجلا ذواقة ، يعطي السامعين ما يرضي اذواقهم ويطربهم ، وفي بعض الأحيان كان ينشد القصائد الحماسية لعنترة بن شداد ، وابي فراس الحمداني ، اما اذا رأى المجلس يزدحم بالعلماء فينشدهم من الأشعار الصوفية التي تلائم ذلك المجلس .

وبعد وفاة الشيخ حسن جاوة ، بل وفي اثناء حياته كان هناك بعض الرجال الذين واصلوا مسيرة الغناء امثال حسن لبني الذي كان يجيد النشيد ويمتاز بدقة طبقات الصوت والمقامات ، وكان في الوقت نفسه يؤذن في الحرم وجاء معه في تلك الفترة الاستاذ عمر عيوني ، وعبد الرحمن الابلاتيني ، ومحمد بن شاهين .وكان في مجال الغناء الصرف رجال امثال الاستاذ طارق عبد الحكيم والاستاذ عبد الله سندي جاءوا بعد فترة الشيخ حسن جاوة ، وتوالت المراحل حتى ظهر امثال محمد أمان ، والحلواني ، وعبد ركي من الشامية وعبد الله ركن ، وخطاب ، والجسيس محمد آشي والد جلال آشي .

وتوالى في مجال الطرب واهل الفن رجال امثال عبد الله محمد والاستاذ طلال مداح رحمهما الله ومحمد عبده ومجموعة كبيرة من الفنانين الذين ملأوا الساحة الآن .
اما في مجال السيدات فقد كان هناك جلسات للطرب خاصة بالنساء واكثر هذه الجلسات في حفلات الزواجات وكان من ابرز المغنيات الفنانة : توحة ، والفنانة كاكا ، والفنانة حمادة ثم جاءت زبيدة ولكنها كانت جميعها حفلات خاصة بالنساء وكانوا يغنون القرعي

آلات الطرب ” وكان هناك من يتقن الضرب على هذه الآلات ، ولكنهم كانوا يمارسون ذلك في السر بعيداً عن العيون والآذان في أقبية البيوت أو في الأماكن المكتومة ، التي   لا تظهر فيها أصوات آلات الطرب أو في الخلاء بعيداً عن العمران .

الطريقةوكان المغني إذا انتهى من المجس بدأ بالغناء وكان هذا الغناء على أنواع وكان أشهره الطريقة اليمانية ، وهو غناء راقص تهتز له الجوارح طرباً ، وخاصة إذا صاحبته آلات الطرب ، وللطبل فيها مكان بارز ، ولعل أشهر من يمثل هذا النوع من الغناء في الوقت الحاضر ، هو المغني الأستاذ محمد علي سندي فهو بقية ممن يجيدون هذا الفن الجميل .وكان هناك الغناء العراقي ويسمونها النغمة العراقية ، وكان أشهر وأجود من يؤديه المرحوم إسماعيل كردوس ويشعر السامع بالشجن الذي تمثله تلك النغمة الطويلة التي يختم بها المغني إنشاده ، والتي تسمع فيها بعضاً من نواح الروح الشجي الحزين .وكان هناك الغناء المصري وكان أجود من يتقنه هو المرحوم سعيد أبو خشبة وهو مغن شاب من مكة المكرمة ، ويأتي مقامه بعد كل من حسن جاوة والكردوس ولعله حينما بدأ الغناء كان أولئك على مشارف شيخوختهم وكان الغناء المصري قد انتشر بفعل الراديو الذي ظهر في مصر لأول مرة في الخمسينات بعد تأسيس الإذاعة المصرية ، وأخذ الناس يستوردون أجهزة الراديو ، ويلتقطون هذه الإذاعة ويستمعون إلى أغاني أم كلثوم التي كانت تقام لها حفلات شهرية ، وإلى أغاني محمد عبد الوهاب وصالح عبد الحي ، وفريد الأطرش ، فكان هواة الغناء ومحترفوه يقلدون هذه الأغاني وكان البعض منهم يتقنها إتقاناً جيداً ”  .

الصور السابقة هي نماذج من الحياة الاجتماعية في الحجاز في المرحلة ما بين عام ألف وثلاثمائة وعشرين إلى ألف وثلاثمائة وثمانين اما فيما بعد ذلك وما تلاه من تطورات مثل ظهور البترول وانتشار الأقمار الصناعية فقد حصلت تحولات كبيرة في المجتمع أثرت فيه تأثيراً كبيراً وغيرت من معالمه ومظاهره بل وحتى من مكوناته الاجتماعية وغيرت من طبائع الأسرة والأفراد والمجتمع ككل ولا شك أن أهم المؤثرات التي أثرت بصورة كبيرة هي :
أولاً : تطور دخول الأفراد والأسر بصورة سمحت لكثير منهم بالسفر إلى خارج المملكة ـ كما ذكرنا سابقا ـ وكان أهل مكة لا يحبون السفر إلى خارج مكة وأقصى ما يذهبون إليه هو مدينة الطائف في الصيف .وبعض العوائل الموسرة وبعض من التجار وأهل المصالح يذهبون إلى جدة لقضاء بعض حوائجهم وما عدا ذلك فأهل مكة يكرهون مغادرتها ومعظمهم إذا غادرها يحرص على أن يعود اليها في نفس اليوم ، فجاءت الدخول الجديدة وشجعت الناس على السفر إلى مصر ثم إلى منطقة الهلال الخصيب في سوريا ولبنان والأردن ثم حصلت بعد ذلك قفزات فانتقل الناس وتحولوا إلى السفر إلى تونس والمغرب ولا شك أن هذا كان من المؤثرات التي تعرضوا فيها لعادات وتقاليد لم يكونوا يألفوها وبالذات في مسألة الحجاب ومسألة الاختلاط والشباب الذي لم يكن يشاهد امرأة غير متحجبة وبدأت المسألة في التطور شيئاً فشيئاً وانتقلوا للسفر بعد ذلك إلى أوروبا وأمريكا وغيرها .وهذا الأمر وان كان تأثيره في بادئ الأمر محدوداً إلا أنه أصبح بعد ذلك رافداً مهماً من روافد التغير الاجتماعي .ثانياً : عندما بدأت الدولة في تنفيذ خطط التنمية وبالذات في مجال بناء الطرق والموانئ وبرامج الاسكان والمدارس احتاج الأمر للاستعانة بعمالة من خارج البلاد وتم فتح الباب وتم استقدام أعداد كبيرة من العمال من مختلف الجنسيات العربية والاجنبية ومن مختلف المذاهب والديانات .

وأخذ الأمر يتطور شيئاً فشيئا ومع تحسن دخول الناس ثم فتح باب التعاقد مع عمالة أجنبية للمنازل ، هنا بدأت ملامح الخطر أولا حيث دخلت العمالة الأجنبية النسائية إلى المنازل واخذ الناس يعتمدون عليها بدرجة كبيرة حتى ان اعداد الخادمات والخدم من الرجال يفوق عدد الأسرة في كثير من الأحيان وأخذ دور الأم يتراجع وهذا من أخطر مراحل تأثير العمالة الأجنبية على المجتمع المكي ثم أخذ هؤلاء العمال ينتشرون في كل عمل وتراجعت العمالة الوطنية بعد أن كان الناس يقومون بكل شيء حتى في حلقات الخضار وفي الأطعمة والألبسة وحتى في خدمة الحرمين الشريفين التي كان يعتز بها أهل مكة فقد حلت محلهم العمالة الأجنبية وتراجعوا وتكاسلوا وعزفوا عن العمل وغفلوا عن تعليم أولادهم حب العمل حتى في المقابر وهكذا أثرت هذه العمالة الأحنبية تأثيراً كبيراً وادت إلى تراجع اليد الوطنية العاملة وتطور الأمر أكثر واكثر عندما اتجهت الاستثمارات في الصناعة وظهرت الحاجة إلى استقدام ملايين العمال حتى بلغوا سبعة ملايين عامل وكان لمكة نصيبها من هذه العمالة الأجنبية ولا يستطيع أي عاقل على بصيرة من امره أن ينكر تأثير هذه العمالة في مجتمع المملكة العربية السعودية وفي بحثنا هذا يظهر التأثير والتأثير في مدينة مكة المكرمة واضحاً جلياً فانت ترى الشباب يتسكع في الشوارع وينشغل بتوافه الأمور في وقت يقوم به العمال الأجانب بكل شيء .وبكل أسف فإن التأثير الأكبر هو في المنازل وفي تربية الأولاد فقد أدى هذا إلى تحولات اجتماعية مؤثرة وخطيرة داخل الأسرة ، وقد ساهمت الجامعات بكل أسف في صناعة هذه البطالة عندما بقيت على حالها وتجمدت مناهجها واستمرت على نفس تخصصاتها دون أن تنظر إلى التحول الذي تم في المجتمع فالجامعات ماتزال تخرج طلاباً في الآداب وفي الاقتصاد العام وفي الإدارة العامة  ومن يتخرج ليس له عمل خاصة وهو يدرس تخصصات لم تعد مطلوبه ومناهج أكل عليها الزمن وشرب ولم تعد هذه المناهج صالحة ولا تعين المتخرج في الحصول على عمل وتطور كل شيء وبقيت بعض مناهج الجامعات جامدة بكل أسف غائبة عن حاجات المجتمع فساهمت بدون قصد في صناعة البطالة وخرجت الآلاف من الشباب وقذفت بهم يتسكعون فلا يجدون أي عمل رغم شعار السعودة الذي رُفع إلا أن الشباب غير مؤهل للعمل وغيــر محب للعمـل وذلك لأننا جامدون في نظامنا التعليمي .

 لأننا لم نحسن تربية أولادنا، ولم نعد المعلم الكفء!! لأننا لم نستفد من التجارب العالمية المتطورة فى مجال التعليم.. لأننا ظللنا وحتى يومنا هذا نراوح فى مكاننا بالنسبة للتقدم فى التعليم..والعالم حولنا يتغير.. لأن التعليم عندنا لايزال يعتمد على السبورة والطباشير والوسائل اليدوية.. لأن مناهجنا تتسم بالحشو والتكرار وتبعث على الملل، وخالية من أى معلومات تواكب العصر الذى نعيشه.. لأن الصورة فى التعليم الإبتدائى – بالذات – تغيرت فى العالم ونحن كما نحن.. بل بالعكس نسير الى الوراء.. وعدد الطلاب فى الفصول يزداد عاما بعد عام.. التعليم الجامعى فى العالم تطور واصبح فيه التخصص حتى وصل الى “الجامعة المصنع” ونحن ما تزال جامعاتنا تخرج الآلاف الذين لايجدون عملا ويتسكعون فى الشوارع..
وعندما جاءت الطفرة توسعنا فى إفتتاح المدارس وأعددنا مدرسين لم يختاروا مهنة التدريس – اساسا – عن قناعة ورضا، ولكنهم إختاروها لأنهم لم يوفقوا فى القبول فى كليات أخرى.. وحتى الآن لم نتمكن من الإعداد الجيد للمدرس..
وكانت خطواتنا سليمه عندما أفتتحنا الجامعات وأستقدمنا اساتذه متخصصون من معظم الجامعات العالمية.. لكننا أخطأنا الطريق ونحن نتعجل السعودة وأنهينا عقود العديد من الأساتذة بحجة إحلال سعوديين محلهم، ونسينا أو تناسينا ان الجامعات العريقة تتعاقد وباستمرار مع أساتذه متخصصين فى مختلف المجالات من أى جامعة فى العالم..

ثالثاً : جاء التأثير الثالث والخطير عند انفتاح العالم ووصول القنوات التلفزيونيه الفضائية إلى الناس بكل سهولة وزاد عدد القنوات على مائتي قناة ولاشك أن ما يقدم في هذه القنوات قد أثر وغيَّر في عادات الشباب من البنين والبنات وأخذوا يتعلمون بكل أسف من هذه القنوات التي أثرت في حياتهم وغيَّرت من طبائعهم وأفكارهم من خلال ماتقدمه من أفلام وما تبثه من أفكار والناس في غفلة عن كل ما يجري فالأب لم يعد يتابع شئون أولاده إلا من رحم ربَّي والأم تخلت عن دورها للمربية وأدى هذا بكل أسف إلى تهيئة الفرصة لتأثير مثل هذه القنوات من جهة واختلاط أولاد الأسرة بالعاملين الأجانب وأخذ عاداتهم وتقاليدهم وغابت التربية عن الأسرة وتغيرت الحارة وتقاليدها وعمدتها ونقيبها ورجالها واختلط الحابل بالنابل وبدأت تحولات اجتماعية تظهر في الأسرة فالأم تهتم بملابس بناتها ومظهرهن أكثر من اهتمامها بتربيتهن ولم تعد قضية التربية وقضية الأخلاق هي الأساس .رابعاً : جاء التحول الخطير الآخر عندما زاد الطلب على المدرس واخذنا نتوسع بصورة سريعة فاصبحنا نستعين بالمدرس أي مدرس لسد الحاجة وادى ذلك إلى تعيين أحداث من الشباب ليس لديهم أي خبرة وبعضهم غير مؤهل للتدريس ولكنه يحمل الشهادة وقذفنا بهم إلى المدارس وخاصة في القرى وهذا من أخطر الأمور التي فعلناها وأرغمتنا عليها الحاجة إلى مدرس أي مدرس ورفعنا علم السعودة في هذا المجال الذي كان يجب أن نكون فيه اكثر رويه وان نعتمد وخاصة في المراحل الأولية الابتدائية على مدرسين مؤهلين فإننا انما نبني للمستقبل ولا يصح أن نتعجل على هذه النحو الذي فعلناه .وختاماً فلا بد أن نقف لحظة لنتصارح ونتفق على خطورة التحول الاجتماعي الذي يتم في بلادنا وأننا نعيش فترة من الإنهيار الأخلاقي ظواهره متعددة ولكن في الجملة نستطيع أن نتبين اننا نعيش أزمة تربوية ونعاني من خلل أخلاقي حتى لغة التخاطب بين الشباب أختلفت والكلمات التي يستخدمونها تدل على مدى التردي الاخلاقي الا من رحم ربي …وقد تحول جانب من حياة الشباب الى العنف ليس اللفظي فقط بل الى العنف البدني فهنا خلل تربوي اذاً ، ولابد ان نعترف بخطورة التحولات الاجتماعية وان نتحمل جميعاً مسؤلية تصحيح المسار فلا نلقي اللوم على جهة دون اخرى وتعديل هذه الظواهر وإصلاحها فقد أصبحت تؤثر على قيمنا ومبادئنا وحياتنا بل على مستقبلنا كافة .والحل يبدأ في رأيي يبدأ بإصلاح التعليم ومناهج التعليم ورجال التعليم وخاصة النواة الأولى والمدرس والمدرِّسة فلابد من تغيير مناهج التربية ومناهج كليات التربية والتركيز فيها على القيم والأخلاق والاستفادة في الوقت نفسه بصورة فعالة من التطور الكبير الذي حصل في مجال التعليم واستخدام العقول الالكترونية والحاسب الآلي وتطوير قدرات أولادنا وامكاناتهم وتحسين مستوى المدرس .. وتغيير الكتب والاستعانه بالبرامج الالكترونية وعلوم الكمبيوتر ولابد أن نعي حقيقة مهمة وهي أن البداية من هنا من التعليم ومنهج التعليم وكتاب التعليم والمدرس حتى نصحح أوضاعنا ونعدل ونصحح الأخطاء التي وقعت والمهم أن نتحرك قبل فوات الأوان وقبل أن تتعقد المشاكل أكثر واكثر وختاماً فهذا جهد المقل حاولت أن ألقي فيه الضوء على التحولات الاجتماعية في مكة المكرمة كحالة دراسة ومقارنتها بما يحصل اليوم بين ظهرانينا وانه لابد من تحرك جاد وعمل صالح نعدل به المسار ونصحح الأوضاع ونأخذ فيه بيد أولادنا بنين وبنات نحو تربية صالحة نسير بها لتصحيح أوضاع المجتمع ووضعه على المسار الصحيح .

AS15-89-12018” بواسطة Apollo Image Gallery/ pdm 1.0

شاهد أيضاً

‏أكاديمية الأمير سلطان لعلوم الطيران تستقبل وفد من طلاب مدرسة المرجان الثانوية

جده محمدالعمري‏استقبلت أكاديمية الأمير سلطان لعلوم الطيران وفد من طلاب مدرسة المرجان العالمية القسم الثانويولقد …