.
مائدةٌ من دفءٍ وذكرياتٍ
.
قراءة: عبدالعزيز قاسم
اعلامي وكاتب صحفي
.
في أمسيةٍ نديّةٍ بعبقِ الذكرياتِ، لبَّينا دعوةَ الأخِ والصديقِ الوفيِّ محمد باحاذق، إلى معايدةٍ حانيةٍ أقامها لنا في مطعمِ “نظام” الهندي بحيِّ الرّحابْ.
.
وطالما أنتَ في مثلِ هذا المطعمِ، فحتمًا ستكونُ أجواؤك عابقةً ببهاراتِ المطبخِ الهنديِّ ونكهاتهِ المتقدةِ، وعبرها تسلّلتْ إلينا حكايا جوالةِ جامعةِ الملكِ عبدالعزيز — تلكَ المظلّةُ التربويةُ الوارفةُ التي سَقَتْ أرواحَنا في ربيعِ العمرِ، وأزهرتْ تحتَها ملامحُ شخصياتِنا.
كنتُ أحدَ أعضائها في مرحلةٍ جامعيةٍ لا تُنسى، وها هي نسائمُها تعودُ لتُلامسَ القلبَ برفقٍ وامتنانْ.
.
في الصورةِ الأولى، يلوحُ مضيفُنا الكريمُ أبو معاذ بضحكتِهِ المجلجلةِ، المميزةِ له، كأنّها نشيدُ فرحٍ يُعبّرُ عن ابتهاجهِ بتلبيةِ إخوانِه لدعوتِه. محمد باحاذق، ذاكَ القلبُ النقيُّ، صاحبُ النفسِ الشفيفةِ التي لا تفتأُ تُكرمُنا بدعواتِها، وتُتقنُ غرسَ الودِّ في كلِّ لقاءٍ.
.
وفي الصورةِ المجاورةِ، يطلُّ “روميتي” العزيز، ورفيقُ غرفةِ السكنِ الجامعيِّ، أخي الحبيبُ، وقسيمُ الروحِ، الدكتور فايز حابس، بهدوئِه الوقورِ، وسمتِه النبيلِ. رجلٌ يشعُّ من حضورِه سلامٌ داخليٌّ، وتفيضُ من روحِه سكينةٌ وجمالٌ، ويُغشى قلبَك الطمأنينةُ متى جلستَ إلى جوارِه. سنونٌ من الإخاءِ جمعتْنا… وما زالتْ تمدُّ جذورَها في عمقِ الوفاءِ.
.
إلى جانبِه، يجلسُ الصديقُ الأنيقُ الدكتور عبدالقادر تنكل، بنظرتِه المتأملةِ، كأنّما روحُه تُحلّقُ في أفقٍ بعيدٍ، تستلهمُ من حميميةِ اللحظةِ زادًا معنويًّا، يدفعُ بها إلى الأعالي. شخصيةٌ ذاتُ حضورٍ، تستشعرُ في ملامحِها عمقًا خفيًّا، وشرودًا جميلًا.
.
وفي الصورةِ الأخيرةِ، تتلألأ الفرحةُ على ملامحِ الصديقينِ الغاليين عبدالعزيز بخش والدكتور عبدالباسط فلمبان، كأنّ وجهَيهِما يُنطقانِ بنشوةِ اللقاءِ بعدَ طولِ غيابٍ، وفرحِ الوصالِ بعدَ اشتياقِ السنينِ.
.
ما أبهى هذه الثلةَ الكريمةَ من الأصدقاءِ الأصفياءِ!
قد تمضي الأعوامُ، وتتشاغلُ بنا الحياةُ، لكنّ عهدَنا موصولٌ، وجذورُ الأخوّةِ ضاربةٌ في الأعماقِ.
.
لقاءٌ مُصغّرٌ في عددِه، عظيمٌ في أثرِه، جدَّدَ فينا دفءَ الصحبةِ، ونفخَ في أرواحِنا نسماتِ الوفاءِ، وذكّرنا أن أجملَ ما يبقى بعدَ الزمنِ… هو الأصدقاءُ.
2=
هنا، على أعتابِ هذه الأمسيةِ الأخويةِ الوارفةِ، أقفُ إلى جوارِ مضيفِنا الكريمِ محمد باحاذق، أمامَ بوابةِ المطعمِ الهنديِّ، وفي القلبِ امتنانٌ لصديقٍ لم يفتأْ يُحيطُنا بدفءِ مودّتِه، وصفاءِ روحِه.
.
كنتُ في تلكَ اللحظةِ جذِلًا؛ إذ نِلتُ شرفَ حضورٍ عزيزٍ على القلبِ، وتمثّلَ في شهادةٍ من أحدِ أنبلِ أصدقاءِ المرحلةِ الجامعيةِ، الدكتور محمد البسّام.
وقد حرصتُ على دعوتِه، لما أكنُّه له من محبةٍ عميقةٍ، وأخوّةٍ باسقةِ الجذورِ، ومشاعرَ لا تفي بها اللغةُ.
.
أبو صالح، في جملةِ حديثِه، أثنى — برقيِّه المعهودِ — على حيويتي، وقالَ ممازحًا: “أنت ألمعُنا اليومَ شبابًا”، فغمرتني كلماتُه بمزيجٍ من الفخرِ والنرجسيةِ الخفيفةِ.
.
كان د. البسّام من نوابغِ قسمِ الرياضياتِ في جامعتِنا، وكنتُ حينها أحدَ طلابِ القسمِ، أتلهّى أحيانًا بكرةِ القدمِ، أو يغلبني النومُ، أنا ورفيقُ عمري إبراهيم حجار، رحمهُ الله، فنعودُ إليه نطرقُ بابَه، فنجدُ في وجهِه السماحةَ، وفي قلبِه سعةً لا توصفُ.
كان يُقدِّمُ ملخّصَ ما سجّلَه، بكلِّ حبٍّ، فالصديقُ يحملُ بين جنبيهِ روحًا شفيفةً، وقلبًا رقيقًا، وتديُّنًا يفيضُ وقارًا وصفاءً.
.
واليومَ، ها هو أستاذٌ في قسمِ الإحصاءِ في ذات الجامعة، لكنّه في قلوبِنا، ما زال معلّمَ القلبِ والعقلِ، نحملُ له التقديرَ، وتفيضُ نحوهُ مشاعرُ لا تُترجمُها الحروفُ.
.
وبجوارِه، يظهرُ الصديقُ فريد العولقي، والحقيقةُ أنّ كلّ من عرفتُهم من قبيلةِ العوالق، كانوا من خيارِ القومِ، لا يأتيك منهم إلا الطيبُ والنُّبلُ.
عرفتُ فيهم سلالةَ السيادةِ، وعزّةَ النفسِ، وكرمَ المعدنِ، وكان أحبَّهم إلى قلبي عبدالحكيم العولقي، زميلي في سكنِ الجامعةِ، ورفيقَ أيامي المضيئةِ.
.
في الصورةِ الثالثةِ، يأخذنا الصديقُ محمد مهيوب في رحلةٍ شائقةٍ إلى ربوعِ الشامِ، يستدعي من ذاكرتهِ قصصًا ومواقفَ، تحكيها عيناهُ قبلَ لسانِه.
.
وإلى جانبِه، يطلُّ عبدالعزيز خان، صاحبُ الحضورِ الأنيقِ، والصوتِ الذي يشدُّ الأرواحَ بتلاوتِه العذبةِ، وإنشادِه الشجيِّ.
يحكي لنا عن سنواتٍ قضاها في المغرب الأقصى، خمسٌ من السنينِ، تركَ فيها أثرًا طيبًا، وصورًا لا تمحى من القلوبِ التي عرفته هناك.
.
كانت أمسيةً مترعةً بالودِّ، تناثرتْ فيها الذكرياتُ كما يتناثرُ عطرُ الوردِ في المساءِ، وسكنت الأرواحَ لحظةُ صفاءٍ نادرةٌ.
استرجعنا فيها أيّامًا جمعتنا على الصدقِ والنقاءِ، وأدركنا كم صقلتنا الحياةُ، وكم أنضجتنا التجاربُ.
.
ها نحن اليومَ نلجُ ستينياتِ العمر أو نكاد، وقد صار كثيرٌ منّا جَدًّا لأحفادٍ، لكنّ أرواحَنا ما تزالُ تنبضُ بحيويةِ تلكَ الأيامِ، نستشرفُ بها أعوامَنا القادمةَ بروحٍ متجدّدةٍ، وعزيمةٍ لا تنكسرُ…

لأنّ الأخوّةَ الصادقةَ لا تشيخُ، بل تزدادُ لمعانًا كلما تقادمَ الزمانُ..
3=
هاتهِ الصورُ الصامتةُ التي التقطتُها لأطباقِنا، لم تكنْ مجرّدَ مشاهدَ للطعامِ، بل صفحاتٍ من قصّةٍ أخويةٍ، نسجناها على مائدةٍ عامرةٍ بالنكهاتِ الهنديةِ.
فوقَ هذا السطحِ الصقيلِ، كانت ألوانُ الطعامِ تُحاورُ عيونَنا، وتُداعبُ حواسَّنا.
.
والحقُّ يُقال، لستُ صديقًا وفيًّا للمطبخِ الهنديِّ؛ فالبهاراتُ المتقدةُ، وذاكَ “السبايسي” الجريءُ، لم يُكتب له أن يُصادفَ هوًى في ذائقتي.
لمسةٌ يسيرةٌ منه، تكفي لتستعرَ نارٌ في فمي، كأنّها لهيبٌ استُخرجَ من جوفِ التنورِ، تُطفئُ لذّةَ الطعامِ، وتُشعلُ دموعًا ليست من خشوعٍ، ولا خشيةٍ من الله، بل من لذعةِ طعامٍ حرِّيفٍ، يتجاوزُ حدَّ الاحتمالِ.
.
مضيفُنا الكريمُ، وقد خَبِرَ ضعفَنا أمامَ جبروتِ النكهةِ الهنديةِ، لم يُقصّرْ، بل كان رفيقًا بذائقتِنا، رحيمًا بنا، فجاءنا بأطباقٍ مُهذّبةِ اللهبِ، مُخففةِ الحدّةِ، نستطيعُ أن نُلامسَ جوهرَها، دون أن تأسرَنا نيرانُها.
.
وهكذا تزيّنتْ مائدتُنا بروائعَ من تراثِ المطبخِ الهنديِّ، من “برياني” يفوحُ بعطرِ الرزِّ، والهيلِ، والقرنفلِ،
إلى “تكا مسالا” مخمليٍّ بالتوابلِ، غنيٍّ بالنكهاتِ، دون أن يكونَ قاسيًا في شدّتِه، إلى خبزِ “نان” هشٍّ وشهيٍّ، نغمسُ أطرافَه في “الإيدامة”، كمن يغمسُ لحظتَه في دفءِ الذكرى.
.
هكذا كان اللقاءُ: نكهةً في الفمِ، وذكرى في القلبِ، ومودّةً على أطرافِ الملاعقِ، وكلُّ صورةٍ من هذه الأطباقِ، تُخبئ خلفَها ضحكةً صافيةً، أو طرفةً عابرةً، أو لمحةَ حنينٍ عتيقةً…
.
ما كان الطعامُ وحدَه هو الزادَ؛ بل كانت الأخوّةُ أزكى… وأشهى.
4=
هنا لقطةٌ ختاميةٌ لثلّةٍ كريمةٍ من رفاقِ دربِ “الجوالة”، أولئك الذين جمعتنا نسائمُ المعايدةِ، فأزهرتْ بنا هذه الأمسيةُ بعبقِ الذكرياتِ، ودفءِ اللقاءِ.
.
وكسرًا لرتابةِ الصورةِ التقليديةِ، ارتأينا أن نختمَ لحظتَنا بتحيةٍ فريدةٍ، ورثها مسلمو الهندِ جيلًا بعد جيلٍ، منذ عصورِ السلاطينِ العظامِ، من أحفادِ السلطانِ الأعظمِ ظهير الدين بابر، وظلت حيّةً، شاهدةً على روحِ التآخي والوحدةِ.
.
التحيةُ — بما ترونَها — تنطلقُ من راحةِ الكفِّ، لا تحملُ سطوةً ولا وعيدًا، بل إشراقةَ سلامٍ وبِشرٍ.
.
الطريفُ أنّه، في زحمةِ هذه الإشارةِ الرمزيةِ، تسلّلَ إلى خاطري طيفُ النازيِّ، صاحبِ الشاربِ الأشهرِ، هتلر، بيدَ أن إشارتَنا، وإن تشابهتْ في الظاهرِ، فهي تنطلقُ من نيّةٍ طاهرةٍ، ووجهةٍ مختلفةٍ، تحملُ في باطنِها نداءَ محبةٍ، لا صرخةَ هيمنةٍ.
.
وها أنا في الصورةِ، أُحدّقُ في راحةِ يدي، كأنّي عرّافٌ عابرٌ، يبحثُ في خطوطِ الكفِّ عن بشائرِ الغدِ، وبالتأكيد، لم تكنْ إلّا “طقطقةً” خفيفةً لي، من أولئك الدجالينَ الذين يبيعونَ الوهمَ لعقولٍ غائبةٍ، وأنفسٍ ضعيفةِ الثقةِ!
.
لكن، دعوني — تماهيًا مع الطرفةِ — أُشي لكم بما أتوسَّمه في العقل الباطن، حيث قرأتُ:
ثقوا أن هذه الأمسيةَ، العامرةَ بالودِّ، ستتكررُ، وأنّ صحبةً جمعتنا في اللهِ، لن تذبلَ مهما تبدّلت الأزمنةُ، وأن جذورَ الأخوّةِ، حين تُزرعُ في القلبِ، تظلُّ تُثمرُ في الدنيا… وتُظلّلُ في الآخرةِ.
.
يا له من ختامٍ مخضّبٍ بعطرِ الذكرى، ومترعٍ بكأسِ الأخوّةِ الصافيةِ، طافحٍ بالامتنانِ والمشاعرِ، أضاءَ ليلتَنا، وأروى أرواحَنا من فيضِ المحبةِ، وتركَ فينا بصمةً من نورٍ… لا تُنسى.