نعيش اليوم في عالم سريع جداً. كل شيء يتحرك بسرعة: العمل، الدراسة، التواصل الاجتماعي، وحتى اللحظات التي من المفترض أن نسترخي فيها. وسط هذا الزخم، يأتي الكاتب الكندي كارل أونوريه في كتابه “في مديح البطء” ليدعونا للتفكير ملياً: هل نحن بحاجة لكل هذه السرعة؟ وهل السرعة فعلاً تجعل حياتنا أفضل؟
ضريبة السرعة
أونوريه يوضح لنا أن السرعة لها ضريبة كبيرة. مع كثرة الانشغالات والركض وراء المهام، نخسر لحظات مهمة في حياتنا. علاقاتنا مع عائلاتنا وأصدقائنا بدأت تتأثر، بالكاد نجد وقتاً للاستمتاع باللحظة الحالية. أصبحنا نعيش حياتنا على عجل، ننتقل من مهمة إلى أخرى دون أن نتمكن من التوقف للحظة والتمتع بما نحققه.
هل تذكر آخر مرة جلست فيها تنظر من نافذة قطار؟ ربما لا، لأننا دائماً مشغولون بشيء ما: الهاتف، الكمبيوتر، أو حتى التفكير في المهمة التالية. في هذا العالم المشبع بالمعلومات والضوضاء، أصبح من الصعب أن نسمح لأنفسنا بالتوقف والاسترخاء.
الحياة السريعة = حياة سطحية
يقول أونوريه إن حياتنا تصبح سطحية عندما نعيش بسرعة. نحن لا نتمكن من الغوص في عمق الأمور ولا ننجح في بناء علاقات حقيقية مع الآخرين. الكاتب “ميلان كونديرا” في روايته “البطء” يقول: “عندما تجري الأمور بسرعة كبيرة، لا يمكن لأحد أن يكون متأكداً من أي شيء، ولا حتى من نفسه”. هذه الجملة تلخص المشكلة؛ السرعة تجعلنا نفقد أنفسنا.
الركض المستمر خلف الوقت يجعلنا نشعر بالتوتر والضغط، بينما البطء يسمح لنا بأن نكون حاضرين بشكل كامل في حياتنا. البطء ليس مجرد التوقف عن الحركة، بل هو فرصة للعودة إلى أنفسنا، والاستمتاع بما نفعله.
فلسفة البطء: السر في التوازن
فلسفة البطء التي يدعو لها أونوريه تعتمد على كلمة بسيطة: “التوازن”. البطء لا يعني التخلي عن السرعة تماماً، بل يعني معرفة متى يجب أن نسرع ومتى يجب أن نبطئ. تخيل حياتك مثل الموسيقى؛ يجب أن تكون متوازنة، بإيقاع صحيح يتناسب مع كل موقف.
كيف نعيش ببطء؟
- إدارة علاقتنا مع التكنولوجيا: هواتفنا أصبحت جزءاً كبيراً من حياتنا، لكنها ليست دائماً مفيدة. يجب أن نعرف متى نستخدم التكنولوجيا ومتى نتوقف. بدلاً من التمرير المستمر على Instagram أو تصفح الإنترنت، حاول أن تأخذ وقتاً للاسترخاء بعيداً عن الشاشات.
- فن قول “لا”: واحدة من أهم الأمور في حياة البطء هي القدرة على قول “لا”. من خلال تحديد أولوياتنا والتخلص من الالتزامات غير الضرورية، نستطيع التركيز على الأشياء التي تهمنا حقاً. هذا يعني أننا نقول “نعم” فقط لما يجعل حياتنا أفضل.
هل يمكن للبطء أن يحدث فرقاً؟
يرى أونوريه أن حركة البطء يمكن أن تقود إلى ثورة في حياتنا. حتى لو لم يكن للحركة هيكل رسمي أو شعبية كبيرة، إلا أن الكثيرين يطبقون مبادئها دون أن يدركوا ذلك. كل خطوة نحو البطء تضيف قوة لهذه الفكرة: أن نعيش حياتنا بشكل أفضل وأعمق.
في النهاية
كتاب “في مديح البطء” هو دعوة لنا جميعاً لإعادة التفكير في علاقتنا بالوقت والسرعة. البطء ليس عن التوقف عن العمل أو الإنجاز، بل هو عن العيش بطريقة أكثر توازناً وسعادة. لنستمتع باللحظة، ونمنح أنفسنا فرصة للتمهل والتفكير، حتى نعيش حياتنا بأفضل طريقة ممكنة.
المراجع:
- كارل أونوريه، “في مديح البطء: حراك عالمي يتحدى عبادة السرعة”، ترجمة ماهر الجنيدي، مشروع كلمة، 2017.