بقلم وديع بنجابي
في حياتنا اليومية، تمر علينا لحظات وأماكن غنية بالتفاصيل الجمالية، ولكننا قد لا نوليها القدر الكافي من التأمل. تصبح تلك التفاصيل جزءًا من الخلفية التي تعودنا عليها في روتيننا، مما قد يجعلنا نغفل عن جمالياتها العميقة. ولكن، ماذا يحدث عندما ينقل لنا شخص آخر، لا يرى العالم بعيونه، ولكن بروحه، صورة لما حولنا؟
مؤخرًا، جلست مع صديق مكفوف، يستخدم برنامجًا يسمى “Be My Eyes”؛ برنامج يتيح للمكفوفين التواصل مع متطوعين عبر الفيديو المباشر للحصول على المساعدة في الرؤية. ما أذهلني في تلك الجلسة أن صديقي بدأ يصف المكان الذي كنا نجلس فيه: الأشجار، الألوان، وحتى الكرسي الذي كنت أجلس عليه. ولأول مرة، لاحظت الجمال الذي كان محيطًا بي، والذي لم ألتفت إليه في السابق.
رؤية متجاوزة للعيون
حينما وصف صديقي المكان بتفاصيل لم أكن أدركها، شعرت أنني بدأت أرى عبر عيونه، أو بشكل أدق، عبر روحه. لم تكن تلك مجرد كلمات تصف مشهدًا ماديًا، بل كانت انعكاسًا لشعوره العميق بالجمال الذي قد يكون غير مرئي للعين، ولكنه حاضر بقوة في روحه. التفاصيل التي ذكرها، مثل الأشجار ولون الكرسي، أصبحت بالنسبة لي رمزًا للحياة والجمال الذي يحيط بنا، لكنه يحتاج إلى من يُعيد اكتشافه.
هذه التجربة جعلتني أفكر في مفهوم الجمال وكيفية إدراكه. نحن نعيش في عالم مليء بالألوان والأصوات والمناظر الطبيعية، ولكننا في بعض الأحيان نفقد القدرة على رؤيتها كما ينبغي. نصبح مشغولين بالأمور الكبيرة، متجاهلين التفاصيل الصغيرة التي تضفي على حياتنا طابعًا خاصًا.
الفن كوسيلة للرؤية الروحية
صديقي هذا ليس فقط من أضاف بُعدًا جديدًا لرؤيتي للعالم، بل هو فنان بكل ما تحمله الكلمة من معنى. يغني بصوت عذب مليء بالإحساس، يلامس القلوب ويخترق شغاف الروح. موهبته الفنية تتجاوز مجرد الغناء، إنها تجسيد لجماله الداخلي. هذا الإدراك الفني، سواء في وصفه للمكان أو في غنائه، ينبع من روحه المتصلة بالعالم بطريقة مختلفة تمامًا.
الفن، هنا، ليس مجرد وسيلة للتعبير عن الذات، بل هو أيضًا وسيلة لرؤية العالم. فالفنان الحقيقي هو من يستطيع أن ينقل مشاعره إلى الآخرين، ويجعلهم يشعرون بجمال الحياة من خلال صوته أو كلماته أو حتى الطريقة التي يصف بها الأشياء العادية.
الجمال كفلسفة حياة
من خلال هذه التجربة، أدركت أن الجمال ليس مجرد شيء نراه بالعين المجردة، بل هو حالة فلسفية تتطلب منا أن نكون أكثر وعيًا وانتباهًا للتفاصيل من حولنا. الجمال ليس شيئًا يمكن حصره في شكل أو لون أو مكان، بل هو إحساس نعيشه بعمق. وفي فلسفة الحياة، قد يكون المكفوف الذي لا يرى بالعينين قادرًا على رؤية ما لا يمكن للعين المجردة إدراكه.
الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط قال إن الجمال لا يوجد في الأشياء نفسها، بل في الطريقة التي ندركها بها. وهذا ما تعلمته من صديقي: الجمال ليس في الأشياء، بل في القدرة على رؤيتها بعمق، والإحساس بها بروحنا قبل أعيننا.
دعوة للتأمل
تجربتي مع صديقي المكفوف كانت تجربة غيرت من طريقتي في رؤية العالم. أعادت إليَّ الإحساس بالجمال الذي كنت قد فقدته في روتين الحياة اليومية. علمتني تلك اللحظة أن الجمال لا يكمن في العيون التي ترى، بل في الروح التي تدرك.
وهنا أدعوكم إلى التوقف والتأمل في التفاصيل التي تمر أمامهم يوميًا. الجمال ليس شيئًا يمكن اكتشافه بمجرد النظر، بل هو تجربة حسية وعاطفية تتطلب منا الانتباه والتقدير. دعونا نعيش كل لحظة بعيون جديدة، وندرك أن ما نعتبره “عاديًا” قد يكون في الحقيقة مليئًا بالجمال إذا نظرنا إليه من زاوية أخرى.
في النهاية، الحياة مليئة باللحظات التي تنتظر من يلتقطها ويشعر بها. دعونا نفتح قلوبنا وأرواحنا لهذا الجمال، ونعيش كل لحظة وكأننا نراها للمرة الأولى.